القائمة الرئيسية

الصفحات

ما مصير المعاهدات الدولية في ظل الانسحابات منها؟



المعاهدات الدولية، بحسب ما يعرفها قانونيون، هي المصدر المباشر الأول لإنشاء قواعد قانونية دولية، وهي بمنزلة التشريع في دائرة النظام الداخلي؛ إذ إن الدول عندما تتراضى فيما بينها على إنشاء معاهدة معينة تؤدي ذات الوظيفة التي يؤديها المشرع داخل الدولة.

وفي حين تؤكد الدول المتعاهدة قدسية وثيقة اتفاقها، وأنه يعد ملزماً التقيد ببنوده، بدا مؤخراً الخروج عنها، ليعلَن خلال فترة قصيرة إخلال دول بمعاهدات كانت تعتبر أنموذجاً يحتذى به.

وأقرب مثال كان على يد أعضاء في "مجلس التعاون الخليجي"، الذي كان يعتبر في محيطه، وبالنسبة للدول العربية، مثالاً يحتذى من نواحٍ عديدة؛ أبرزها الكلمة العربية الموحدة، والاتفاق والتعاون العربي، وهو الحلم الذي يراود مخيلة الشعوب العربية منذ عقود طويلة.

لكن في يونيو 2017 لم يعد كذلك، خاصة بعد أن اتخذت دول خليجية موقفاً معادياً لقطر، تسبب بفرط عقد التعاون الخليجي الذي يعتبر منظمة إقليمية سياسية، واقتصادية، وعسكرية وأمنية عربية، مكوّنة من ست دول عربية تطل على الخليج العربي، تشمل الكويت وقطر وسلطنة عُمان والسعودية والإمارات والبحرين.

وكان القرار الذي اتخذته كل من السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، في مقاطعة قطر وفرض حصار عليها، يمثل السكين التي قطعت وريد هذا الاتحاد العربي.

وعلى الرغم من أن مجلس التعاون ما زال قائماً، فإنه يشكو الانقسام بفعل هذه الأزمة، التي تجاوزت قدسية بنود الاتفاقية التي تعهدت البلدان الخليجية بالحفاظ عليها.

الاتحاد الأوروبي
يعد الاتحاد الأوروبي هو الأكبر عدداً من ناحية الدول واللغات والقوى والتأثير العالمي، لكنه بدأ يسير في طريق التفكك، بعد أن أعلنت بريطانيا مغادرته.

ويبلغ عدد دول الاتحاد 28 دولة من القارة الأوروبية، التي يبلغ إجمالي عدد سكانها نحو 510 ملايين نسمة.

وفي يونيو 2016، قررت المملكة المتحدة عن طريق استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبي، في سابقة هي الأولى في تاريخ المشروع الأوروبي الذي يبلغ عمره 65 عاماً.

ويوجد الاتحاد الأوروبي بين دول كبرى؛ مثل ألمانيا التي يبلغ عدد سكانها 81 مليون نسمة، وفرنسا التي يبلغ عدد سكانها 66 مليون نسمة، ودول صغيرة مثل مالطا 420 ألف نسمة، ولوكسمبورغ 550 ألف نسمة.

ويعتبر الاتحاد الأوروبي قوة عسكرية واقتصادية وبشرية كبيرة ومترابطة ما جعلها مؤثرة عالمياً.

المحكمة الجنائية الدولية
في 17 يوليو 1998، وافقت 120 دولة في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا على ما يعرف بميثاق روما، واعتبرته قاعدة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وعارضت هذه الفكرة سبع دول، وامتنعت 21 عن التصويت.

واعتبر الميثاق أن ملايين الأطفال والنساء والرجال في القرن العشرين -الذي شهد حربين عالميتين- وقعوا "ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة"، وأنه شهد "جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن العالمي"، وأن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب.

وتأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من يوليو 2002، بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 أبريل من السنة نفسها، بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه 60 دولة.

وصدق لحد الآن على قانون المحكمة 108 دول، وتلتقي في جمعية للدول الأعضاء، وهي هيئة تراقب عمل المحكمة، في حين وقعت 41 دولة أخرى على ميثاق روما، لكنها لم تصدق عليه بعد.

تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بـجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.

لكن الجنائية الدولية شهدت أول انسحاب لأعضائها في أكتوبر 2017، وكانت جمهورية بوروندي، وقال متحدث باسم المحكمة: "لقد باتت بوروندي أول دولة تنسحب من عضوية المحكمة".

وكانت بوروندي، إلى جانب دولتين أفريقيتين، اتهمت المحكمة الجنائية الدولية بالتركيز على القارة الأفريقية فيما يتعلق بالتحقيق في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وتقول المحكمة الجنائية الدولية: "إن انسحاب بوروندي لا يؤثر في الفحص التمهيدي في البلاد الذي يجريه ادعاء المحكمة بالفعل".

وشهدت بوروندي اضطرابات سياسية دموية منذ 2015، على خلفية سعي رئيسها لولاية أخرى؛ ما دفع "الجنائية الدولية" إلى فتح تحقيق في الأحداث.

وفي مارس 2019، انسحبت الفلبين من المحكمة الجنائية الدولية؛ بعدما فتحت المحكمة تحقيقاً أولياً في اتهامات للرئيس، رودريغو دوتيرتي، ومسؤولين آخرين في حكومته بارتكاب أعمال قتل جماعي؛ في إطار حملة على المخدرات والجريمة أسفرت عن مقتل نحو خمسة آلاف شخص، وفق ما تقول منظمات حقوقية محلية.

وبعد شهر من انسحاب الفلبين، أعلن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، انسحاب بلاده من الجنائية الدولية، وذلك عقب شهر من انضمام كوالالمبور لها.

وقال محمد في مؤتمر صحفي إن بلاده قررت الانسحاب بسبب "الارتباك السياسي الناتج عن بعض الأشخاص أصحاب المصالح"، وفقاً لما نقلته صحيفة "ذا ستار" المحلية.

انسحابات أمريكية
واشنطن أعلنت خلال فترة قصيرة الانسحاب من عدة اتفاقيات، وذلك عقب تولي دونالد ترامب الرئاسة في البلاد، عام 2017.

إذ انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، في يونيو 2017، ثم الاتفاق النووي مع إيران، في مايو 2018، وهو ما أغضب حلفاءه الأوروبيين تحديداً.

وأعلنت إدارة ترامب الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة "يونسكو"، في أكتوبر 2017؛ بسبب ما وصفته بالموقف المعادي لـ"إسرائيل".

ولاحقاً أوقفت تمويل صندوق الأمم المتحدة للإسكان، وأنهت المشاركة في الاتفاق العالمي بشأن الهجرة الآمنة والنظامية، وخفضت لأكثر من النصف مساهماتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".

كما وقع الرئيس الأمريكي على الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في يونيو 2018.

الانسحاب جاء- بحسب واشنطن- احتجاجاً على ما أسمته "المواقف المتحيزة تجاه إسرائيل"، وأن الولايات المتحدة أدارت مفاوضات مع الأمم المتحدة دون جدوى، وهو ما دعاها إلى اتخاذ هذا الموقف.

وفي أكتوبر 2018، ندَّد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، بمحكمة العدل الدولية، واصفاً إياها بأنها "مسيَّسة وغير فعالة"، معلناً أن الإدارة الأمريكية قررت الانسحاب من اتفاقيتين دوليتين تتعلقان بإيران وفلسطين.

وآخر الانسحابات الأمريكية كان مطلع أغسطس الجاري، حيث أعلنت واشنطن انسحابها بشكل رسمي من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، مؤكدةً أنّ قرارها جاء رداً على "انتهاك روسيا المتعمد للاتفاقية".

ما مصير هذه الاتفاقيات والتكتلات؟
يؤكد مختصون بالشؤون السياسية أن الخلافات التي تنشب بين دول تربطها منظومة أو اتفاقية أو وحدة معينة، تتطور لاحقاً إلى ما يمثل تهديداً ينهي وجود هذه المنظومات أو الاتفاقيات، إن لم تحل هذه الإشكاليات.

ففي الأزمة الخليجية، التي نشبت في يونيو 2017، واتهمت فيها الدول الأربع التي حاصرت قطر بأن الأخيرة تدعم الإرهاب، في حين تنفيه الدوحة، أكد العديد من المختصين بأن نهاية مجلس التعاون ستكون واقعاً بسبب هذه الأزمة.

وفي هذا السياق قال الكاتب القطري جابر الحرمي، في تصريح سابق لقناة الجزيرة، إن دول الحصار دمرت مفهوم الأسرة الواحدة في البيت الخليجي، خاصة أن قطر دعت إلى الحوار منذ أول يوم، وأن أمير الكويت، الشيخ صباح الجابر الصباح، لم يتلقّ رداً على رسائله لدول الحصار.

أما الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر قوة أوروبا العظمى، فهو أيضاً مهدد بالزوال؛ على وقع العديد من المشاكل، ومنها "بريكست".


في هذا الشأن قال وزير خارجية لوكسمبورغ، يان إسلبورن، في وقت سابق: إن "الاتحاد الأوروبي من الممكن أن يتفكك على نحو سريع للغاية؛ إذا ما أصبح الانغلاق هو القاعدة، وبديلاً من التضامن الداخلي والخارجي".
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات